آخر تحديث GMT 07:01:18
اليمن اليوم-

المصريون مضروبون في الخلاط

اليمن اليوم-

المصريون مضروبون في الخلاط

معتز بالله عبد الفتاح
بقلم : معتز بالله عبد الفتاح

هناك شرخ عميق فى الشخصية المصرية بحكم تعرضها لصدمات هائلة فى آخر مائة سنة، وأصبحت نتائجها جزءاً أصيلاً من الثقافة السياسية للمصريين. ويمكن رصد هذه الصدمات على مستويات أربعة.

أولاً وعلى مستوى الهوية، وجد المصريون أنفسهم يتحولون بقرارات سياسية من «ولاية إسلامية» تتبع الخلافة العثمانية لأكثر من 450 عاماً إلى دولة واقعة تحت الاحتلال البريطانى بالتعاون مع مجموعة من الملوك والزعماء الذين يجدون تحالفهم مع المحتل أنفع من تحالفهم مع زعماء الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، لتنتقل مصر إلى «زعيمة» الأمة العربية تقاتل باسمها ضد الصهيونية والإمبريالية فى أعقاب ثورة يوليو. وتأتى هزيمة 1967 لتفقد الثورة الكثير من شرعيتها، ثم يرفع انتصار 1973 الروح المعنوية للمصريين، لكنهم يجدون أنفسهم، استيفاءً لمتطلبات السلام مع إسرائيل، مطالبين بأن يضحوا بكل ما عاشوا من أجله فى السنوات الثلاثين السابقة من أجل استعادة الأرض؛ فبدلاً من التفكير والتصرف كمسلمين أو كعرب كان عليهم أن يعيدوا «برمجة» أولوياتهم باعتبارهم «مصريين أولاً» وأحيانا «مصريين وكفى» وأن يجد علماء الدين ما يبرر السلام مع إسرائيل من آيات القرآن وأحاديث الرسول (ص) بنفس البراعة التى كانوا يحمّسون بها الناس للقتال والجهاد ضد العدو الغاصب. ومع كل صدمة من هذه الصدمات، يفقد المصرى جزءاً من قدرته على تحديد هويته، ومن ثم قضاياه الأولى بالتقديم.

وتأتى ثورة ٢٥ يناير ليجد المصريون أن من أنجحها هو من أفشلها ويخشى أن يتحول الوطن إلى الضحية دون تحديد من المنتصر ليقوم بـ٣٠ يونيو، ويكتشف أن المسألة أعمق من مجرد تغيير نظام حكم.

وعلى مستوى بنية النظام السياسى الداخلى، فقد شهدت مصر تحولات هائلة من الملكية مع التعددية الحزبية على عيوبها قبل ثورة ١٩٥٢، ومجتمع مدنى نشط نسبياً إلى نظام ثورى يلغى الأحزاب ويؤمم الصحف ويجمد المجتمع المدنى ويطلق لفظة «البائد» على كل ما كان سابقاً عليه، وقبل أن تستقر الأوضاع يرحل الرئيس عبدالناصر ويأتى الرئيس السادات، ليسير على خط الرئيس عبدالناصر «بأستيكة» كما قيل.

لنجد أنفسنا نعود إلى حالة من التعددية الحزبية الشكلية التى استمرت حتى عهد الرئيس مبارك الذى تبنى مزيداً من الانفتاح الإعلامى مع ضبابية فى حدود الحرية وقيودها، والسماح بمجتمع مدنى أكثر حرية، ولكن أقل فاعلية مما كان عليه قبل الثورة. وفى علاقة النظام السياسى بأقدم جماعة معارضة فى تاريخنا، أقصد جماعة الإخوان، تتوالى الصدمات بين النشأة والتفاوض ثم الإلغاء والحل فى مرحلة ما قبل الثورة، ثم دعم الثورة والتحالف معها، ثم القبض على رموزها وإعدامهم فى عهد الرئيس عبدالناصر، ثم إخراجهم من السجن والسماح لهم بالازدهار فى بدايات عهد الرئيس السادات، ثم الاعتقال فى آخر عهده، ثم توسيع هامش الحركة لهم فى عهد الرئيس مبارك مع تضييق هذا الهامش تباعاً بعد فوزهم فى كل انتخابات سمح لهم النظام بالتنافس فيها سوءاً كانت اتحادات طلابية أو نقابات أو تشريعية.

ثم يصبح هؤلاء فى موقع السلطة، ثم يطردون منها بعد أن ثبت أنهم غير جديرين بالأمانة التى أعطاهم الله إياها.

ثالثاً على مستوى بنية النظام الاقتصادى: فى أقل من عقدين تحولت مصر من نظام السوق ببورصة نشطة وعملة قوية ومنطق التنافس والتسويق وتفاوت حاد فى الدخول والثروات فى ظل اقتصاد منفتح على العالم الخارجى فى العهد الملكى إلى دولة اشتراكية تعيش على إغلاق الحدود الاقتصادية وتبنى منطق الاعتماد على الذات وتأميم الشركات والبنوك الأجنبية ثم الوطنية، وهكذا، فمن قواعد السوق إلى التدخلات الإدارية وجد المصريون أنفسهم مطالبين بالتعايش مع واقع جديد تعاملوا معه بمنطق «لعله خير».

وبعد سنوات ليست بالطويلة، ونتيجة عجز موارد الدولة عن الوفاء بما عليها من التزامات داخلية وخارجية عسكرية ومدنية، قرر الرئيس السادات أن يعود بعجلة الزمن إلى الوراء، فتتبنى مصر الانفتاح الاستهلاكى ليزيد من عجز الموازنة ويحدث خلل رهيب بالبنية الطبقية فى المجتمع فى وقت لم يكن فيه المصريون قد استوعبوا بعد ضربات التأميم فى مطلع الستينات، ثم تأتى روشتة البنك الدولى وصندوق النقد مع بدايات حكم الرئيس مبارك الذى أعلن انحيازه لمحدودى الدخل، مع يقينه بأنهم هم الذين يدفعون ثمن كل السياسات التى تبنتها الدولة منذ حكم مصر، فتشرع الدولة فى بيع الكثير مما قامت بتأميمه من قبل.

والأخطر أن هذه المعاناة الاقتصادية أدت إلى نتائج ثقافية وقيمية حادة جعلت ما كان حراماً وعيباً ومرفوضاً (لأنه يدخل فى باب الفساد والرشوة) ليس حراماً أو عيباً أو مرفوضاً، فيزيد الشرخ فى الشخصية المصرية اتساعاً. ويكفى النظر إلى قرار تأميم الشركات والمصانع الوطنية فى عهد الثورة، ثم قرار بيعها فى عهد الرئيس مبارك لنعرف حجم المعضلة التى عاشها المصريون.

فالشركات الوطنية كانت تعمل وتتوسع وتحقق تراكماً رأسمالياً جيداً ويدفع أصحابها الضرائب وتوجد مزيداً من فرص العمل، بل وتنافس الشركات الأجنبية، ويأتى رجال الثورة بجرة قلم لتحويل كل هذه الشركات إلى مؤسسات قطاع عام، وبدلاً من أن يدير الشركة صاحبها يصبح على رأس كل شركة ضابط أو أحد الموثوق فيهم الذى قد يديرها، وفى ذهنه حسابات كثيرة قد يكون آخرها الصالح العام المفترض، ثم يأتى القرار ببيع ما تم تأميمه وبناؤه فى مرحلة سابقة.

لماذا لم يترك الرئيس عبدالناصر ما كان يعمل فى يد القطاع الخاص يعمل وتبنى الدولة ما تشاء من شركات ومصانع مملوكة للدولة؟ ولماذا لم تقم الدولة بإصلاح الشركات والمصانع إدارياً قبل أن تشرع ببيع الكثير منها بمبالغ أقل كثيراً من قيمتها السوقية؟ هذا السؤال وذاك يلتقيان فى ذهن المصرى بلا إجابة لتضيف إلى الحيرة حيرة، وإلى اللامنطق جرعة أكبر من اللافهم.

رابعاً وعلى مستوى السياسة الخارجية والدور الإقليمى، حدثت تحولات عميقة فى الدور المصرى من عدو لإسرائيل لصديق يهنئها بحرب استقلالها ودعمها اقتصادياً بتصدير الغاز الذى يمثل ثروة قومية مصرية للشعب الإسرائيلى «الشقيق»، ومن قيادة المنطقة العربية ضد «العدو الصهيونى» إلى محاولة لعب دور «محايد» و«وسيط نزيه» فى نفس القضية التى ناضلت مصر باسمها ومن أجلها عقوداً، ومن عدو للولايات المتحدة التى توعّدناها بشرب مياه البحرين الأبيض والأحمر على عهد الرئيس عبدالناصر لحليفها الاستراتيجى الأكبر لدرجة أن خطوط العداء والصداقة المصرية فى منطقتنا تنطبق تمام الانطباق مع حدود العداء والصداقة الأمريكية، ويتحول رئيسنا إلى «كنز استراتيجى» عند «العدو» الإسرائيلى. هذه كلها تغيرات أشبه بصدمات لم يستوعبها العقل الجمعى للمواطن المصرى بما أفقده بوصلة تحديد مساحات الصواب والخطأ وحدود الفعل والتقاعس.

ورغماً عن كل هذا، فالوطن لم يزل صامداً، بما يعنى أنه فيه من مقومات الحياة والاستمرار ما يفوق ما أمامه من معضلات الصراع والفناء.

هذه محاولة للفهم ودعوة للتفاؤل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المصريون مضروبون في الخلاط المصريون مضروبون في الخلاط



GMT 20:25 2021 الخميس ,01 تموز / يوليو

مرافَعةُ البطاركة أمام البابا

GMT 11:21 2021 الثلاثاء ,29 حزيران / يونيو

هل يبدأتصويب بوصلة المسيحيين في لقاء الفاتيكان؟

GMT 13:21 2021 السبت ,26 حزيران / يونيو

لبنان والمساعدات الاميركية للجيش

GMT 14:31 2021 الإثنين ,21 حزيران / يونيو

الحِيادُ هذا اللَقاحُ العجائبيُّ

GMT 23:33 2021 الخميس ,17 حزيران / يونيو

أخبار من اسرائيل - ١

GMT 16:22 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

أخبار عن بايدن وحلف الناتو والصين

GMT 17:50 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

المساعدات الخارجية البريطانية

GMT 07:38 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

أعداء المسلمين
اليمن اليوم-
اليمن اليوم-

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 21:42 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 08:03 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

لن يصلك شيء على طبق من فضة هذا الشهر

GMT 21:18 2020 السبت ,18 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 17:05 2016 الخميس ,15 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على أشهر مصمّمي الأزياء وأكثرهم شهرة عالمية في مصر

GMT 19:40 2019 الأحد ,08 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج في كانون الأول 2019

GMT 11:41 2017 الثلاثاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

آسر ياسين يكشف مهاراته بلعب كرة القدم في "كل يوم"

GMT 06:58 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

ماليزيا من أكثر الوجهات انتشارًا في العالم
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
alyemen, Alyemen, Alyemen