آخر تحديث GMT 07:01:18
اليمن اليوم-

المأزق البريطاني

اليمن اليوم-

المأزق البريطاني

بقلم: عبد المنعم سعيد

المأزق هو حالة تكون فيها كل الاختيارات مستحيلة، وهذا سيصدق على الأفراد كما يصدق على الأوطان. وعندما وقفت رئيسة الوزراء البريطانية «تيريزا ماي» لكي تتحدث إلى الشعب البريطاني بعد أن بات مستحيلاً تحقيق هدف الخروج من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس (آذار) الحالي كما كان مقرراً، كانت تعبر عن هذا الموقف الذي تقل فيه الاختيارات، وإذا جاءت فإنها تكون مستحيلة التطبيق، أو أن ثمنها سوف يكون عالياً إلى الدرجة التي تفوق ثمن العدول عنها. والحقيقة أن «المأزق البريطاني» ترجمته العملية: العجز الكامل عن اتخاذ القرار، ولم يكن ذلك تقديراً سياسياً لمحلل أو مراقب، وإنما كان في الجوهر تجربة عملية بدأت بقرار رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بطرح أمر الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي على الاستفتاء الشعبي، فإذا به يؤدي إلى نتيجة تقسم الشعب كله ليس فقط سياسياً وإنما عاطفياً ونفسياً وقومياً. استقال الرجل لأنه كان من جماعة البقاء، ولم يكن هناك حل للانقسام في حزب المحافظين إلا تيريزا ماي التي كان صوتها مع البقاء ومع ذلك فإنها كانت القائدة التي ستقود عملية الخروج. كانت رئيسة الوزراء المؤمنة بأن بريطانيا «العظمي» التي تعيش على جبال هائلة من التقاليد والسوابق والحكمة السياسية التي تراكمت عبر القرون؛ كما أنها كانت على الجانب الآخر مؤمنة أن اتفاقية «ماستريخت (1992) المنظمة لحال الاتحاد الأوروبي قد نظمت بشكل دقيق كيفية الخروج من الاتحاد وفقاً للمادة 50 منه، حيث يجري فيها مراعاة المصالح المختلفة، التي - لا شك - سوف تتأثر سلباً وإيجاباً من عملية الانسلاخ بعد وحدة، وانفصال بعد تكامل واندماج. وللتاريخ فإن الخروج البريطاني لم يكن الأول في المنظومة الأوروبية حتى قبل أن يكتمل اتحادها، فعندما حصلت «غرينلاند» على الاستقلال الذاتي في 1982 من «الدنمارك» التي انضمت إلى المنظومة الأوروبية في عام 1973 مع آيرلندا وبريطانيا، فإنها صوتت لصالح الانسحاب من المنظومة.

في الواقع العملي؛ ما كانت التجربة التاريخية البريطانية فيها من السوابق والتقاليد ما يسعف تيريزا ماي ويعطيها القدرة على الخروج الآمن من الاتحاد بأقل الخسائر الممكنة، وأكثر الفوائد المتاحة؛ ولا كانت قواعد الاتحاد الأوروبي والتشابكات التي تكونت خلال العقود الماضية مما يمكن قطعها بسهولة. وإذا كانت تجربة الاتحاد الأوروبي هي أكبر عملية هندسة سياسية في التاريخ الإنساني لكي تجعل «الحرب لا يمكن التفكير فيها وعملياً تصبح مستحيلة»، فإن الخروج منها لا يمكن أن يكون سهلاً بل لا بدَّ في الهندسة العكسية أن تكون بالغة الصعوبة وقائمة على مساومة دقيقة تراعي المصالح المعقدة لثماني وعشرين دولة، هي الأعضاء في الاتحاد. مثل ذلك لم يكن ممكناً إلا من خلال ما سمي الخروج «الناعم» الذي يبقي كثيراً من المصالح والتفاعلات المشتركة، كان أكثرها تعقيداً أن الحدود المشتركة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي تقع في شمال آيرلندا التي هي جزء من المملكة المتحدة، ولكنها واقعة في الجزيرة الآيرلندية. ولكن مثل هذا لم يكن ما يسعى إليه أنصار الخروج، الذين لم يكن لديهم غضاضة في أن تخرج بريطانيا من الاتحاد دون اتفاق على الإطلاق، ولكن الثمن كان لدى تيريزا ماي فادحاً ليس فقط لأنها كانت تنظر إلى مستقبل العلاقات البريطانية الأوروبية، وإنما لأن أقاليم اسكوتلندا وشمال آيرلندا كانت سوف تتعرض سلباً من الخروج غير الآمن من دون اتفاق.

والأخطر أن مجلس العموم البريطاني خرج تماماً على تقاليده «الأنجلوسكسونية» القائمة على نظام الحزبين، حيث لم يكن هناك حزبان «العمال والمحافظون» في التعامل مع القضية مثلما يحدث في كل القضايا، وإنما كان هناك لدى الحزبين، والأحزاب الأخرى أنصار للبقاء والخروج من الاتحاد الأوروبي. وبينما تعدد التصويت على وثائق الخروج تنفيذاً لإرادة الشعب في الاستفتاء، فإن النتيجة كانت دائماً رفض ما جرى الاتفاق عليه مع الاتحاد. والغريب، أن مجلس العموم لم يأخذ هذا الرفض إلى خطوته المنطقية بسحب الثقة بالحكومة، وإنما صوت إلى جانب بقائها. لم يكن الأعضاء مستعدين بعد لانتخابات جديدة، وما كانت الفجوة بين أنصار البقاء في ناحية والخروج في ناحية أخرى من الممكن عبورها، فلم يبقَ في النهاية إلا تأجيل النظر في الموضوع لمدة ثلاثة أشهر، وبقي السؤال: ما الذي يمكن أن يحدث في الثلاثة أشهر المقبلة، ولم يكن ممكناً حدوثه قبل ثلاثة أشهر؟! أنصار البقاء يطالبون باستفتاء آخر على أساس أن الشعب البريطاني أصبح أكثر وعياً بثمن الخروج مما كان عليه عند التصويت السابق؛ ولكن أنصار الخروج، ومعهم تيريزا ماي يرون أن ذلك سوف يعد أكبر إهانة للديمقراطية البريطانية، بل وتهديداً لمستقبلها لأن تصويتاً آخر ونتيجة مختلفة سوف يفتحان أبواب جهنم لاستفتاءات متعددة.

ولعل هذه كانت هي «الخطيئة الأصلية» في القضية كلها، فالدرس الأساسي الذي علمته بريطانيا للعالم عن «الديمقراطية» قام عبر نضج قرون على الفكرة «التمثيلية» حيث لا يصوت الشعب مباشرة على الموضوعات المختلفة، وإنما يكون ذلك عن طريق ممثليه الذين يتداولون فيما بينهم، استناداً إلى جدارة المنطق في تحقيق المصلحة الوطنية.

تجربة «البريكست» أثبتت أن الاعتماد على «الجماهير» و«الشعب» في تقرير الأمور يفتح الباب للنعرة القومية، والنزعة الشعبوية، والديماغوجية السياسية لكي تدفع في اتجاهات عندما تتعارض فيها الأثقال النسبية تؤدي إلى طرق مسدودة وعجز عن اتخاذ القرار.

الدرس الآخر في الموضوع أن بناء مثل الاتحاد الأوروبي بدأ بمنظمة مشتركة في اتفاقية باريس لتنظيم صناعة الحديد والصلب (1951)، ثم مع اتفاقية روما (1958) جاء إنشاء التجمع الاقتصادي الأوروبي ومعه المنظمة الأوروبية للطاقة النووية؛ حتى وصل إلى اتفاقية «ماستريخت» وما أضيف لها في أمستردام (1997) ونيس (2001) ولشبونة (2007)؛ كل ذلك خلق بناءً يصعب الخروج منه حتى ولو مرت الدول الأوروبية بمرحلة ترتفع فيها المشاعر القومية، وتبدو فيها «الهوية» الأوروبية خافتة وغير قادرة على تقديم الزاد المعنوي لدول تمر بمراحل سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة النضج.

الدرس الثالث أن التجربة الأوروبية في عمومها ليست منزوعة الصلة عن تجربة «العولمة» في العالم كله، وما ارتبط بها من تقاليد ليبرالية حدث لأسباب متنوعة، ربما كان أهمَّها الهجرة واللاجئون من أفريقيا والشرق الأوسط، ومن ثم فإن الأزمة في العالم حلَّت في أوروبا أيضاً، وانعكست هذه بدورها على تجربة الخروج البريطاني.

ولكن العالم لا ينتظر حل المعضلة البريطانية، ولا الخروج من مأزق تيريزا ماي، فالتفاعلات الجارية في الولايات المتحدة تحت قيادة دونالد ترمب، وفي روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين، والصين تحت قيادة شي جينبنغ، تمضي في طريقها لكي يكون العالم ثلاثي الأقطاب، بينما تحرم أوروبا من فرصة أن تكون قطباً رابعاً في العلاقات الدولية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المأزق البريطاني المأزق البريطاني



GMT 11:27 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

انتقد ترمب ثم سر على خطاه!

GMT 11:22 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

نظام كورونا العالمي الجديد

GMT 11:20 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

وداعاً محمود رضا طاقة البهجة الراقصة

GMT 11:19 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

يريد أن يكون متواضعاً

GMT 11:17 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

٣ ملامح فى ليبيا!
اليمن اليوم-
اليمن اليوم-

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 21:18 2020 السبت ,18 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 16:26 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 05:37 2024 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

نيوزيلندا وجهة سياحية مميزة تتمتع بمناظر طبيعية خلابة

GMT 12:53 2021 الإثنين ,19 تموز / يوليو

«طلاء حيوي» يقاوم التآكل والبقع وأشعة الشمس

GMT 07:34 2016 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الافصاح عن بناء أول مزرعة موجية لتوليد الطاقة في بريطانيا

GMT 13:30 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

أفكار جديدة وبيسطة لديكور ركن الصلاة في المنزل

GMT 17:42 2016 الإثنين ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

بيكيه يستفز كريستيانو رونالدو ويؤكد أن "البرغوث" من كوكب آخر

GMT 01:00 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

اتحاد الجمباز في بيروت يعلن جوائز بطولة لبنان للذكور

GMT 08:23 2017 الثلاثاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

المرأة تميل إلى السلوك الودي والاجتماعي عكس الرجال

GMT 03:17 2018 السبت ,24 آذار/ مارس

حرب شعواء تُضرم بين "سي إن إن" و"فوكس نيوز"

GMT 05:58 2017 الإثنين ,20 شباط / فبراير

رشا شربتجي تفصح عن طرق التعذيب في سجون سورية

GMT 06:16 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

ضغوط مختلفة تؤثر على معنوياتك أو حماستك
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
alyemen, Alyemen, Alyemen