آخر تحديث GMT 07:01:18
اليمن اليوم-

فرنسا حائرة في أوروبا مريضة

اليمن اليوم-

فرنسا حائرة في أوروبا مريضة

بقلم - غسان شربل

في الديمقراطيات؛ الرأي العام حصان متهور وغدار. يحملك إلى القصر في موجة هادرة. يطالبك سريعاً بمعجزات تفوق صلاحياتك، متناسياً العقبات البيروقراطية والسياسية والنفسية. وحين تتأخر في إبهاره يبدأ إشهار ندمه فتنطلق الخيبات والاحتجاجات وتصفية الحسابات. واليوم غيّرت التكنولوجيا قواعد اللعبة. جعلتها أصعب وأخطر. بفعل الهواتف الذكية تحول كل مواطن حزباً مستقلاً. صار لكل فرد صحيفته الخاصة على شاشة هاتفه. يدبّج ويغرّد ويعارض ويندد ويوزع الأخبار والشائعات. وصار باستطاعة وسائل التواصل الاجتماعي تجميع النقاط المتفرقة وتحويلها نهراً. وتجميع الرياح الصغيرة وإدماجها في عاصفة هوجاء. كانت السلطة تراقب الأحزاب والنقابات والمتمردين البارزين. من يستطيع اليوم زرع شرطي في هاتف كل مواطن وقفل في عقله؟

قبل أسابيع كان في استطاعة إيمانويل ماكرون أن يواصل ارتكاب الأحلام الكبيرة رغم استطلاعات الرأي التي أكدت الانحسار الهائل الذي ضرب الموجة التي حملته إلى قصر الإليزيه. بدا الملعب الأوروبي مفتوحاً وينتظر رجلاً قادراً على التحدث باسم القارة وليس باسم بلاده وحدها. المشهد الأوروبي يثير اللعاب فعلاً. أنجيلا ميركل المستشارة التي كانت في السنوات الماضية العمود الفقري للعمل الأوروبي المشترك بدأت جمع أوراقها استعداداً للمغادرة. تخلت عن زعامة الحزب لتغادر لاحقاً مقر المستشارية. ومن جهة أخرى، تنشغل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي باستكمال إجراءات الطلاق مع الاتحاد الأوروبي، وتصارع على جبهة بروكسل وتحاول تفادي طعنات معارضيها وخناجر رفاقها في الحزب. وحدها فرنسا بدت مؤهلة لملء الفراغ الذي سيحدثه سلوك ميركل طريق التقاعد وسلوك ماي طريق الطلاق.
وكان ماكرون يحاول إعداد نفسه لهذا الدور الكبير. أوروبا ليست في أفضل أحوالها. وسوء التفاهم مستحكم بين ضفتي الأطلسي. يغرف دونالد ترمب من قاموس يصعب على قادة القارة القديمة قبوله. يطالب أوروبا بأن تتحمل مسؤوليات أكبر في الدفاع عن نفسها. يذكّر قادتها بأن الجيش الأميركي أنقذ القارة مرتين، لكن أميركا تعبت من الإنفاق السخي لضمان سلامة حلفائها. في المقابل لا يترك فلاديمير بوتين سانحة إلا ويغتنمها لإضعاف الروح الأطلسية والغربية. استعاد القرم بمنطق إعادة الفرع إلى الأصل. وهز استقرار أوكرانيا مذكراً الأوروبيين بأن روسيا لن تتسامح حيال محاولات محاصرتها أو تطويقها أو تكريسها قوة من الدرجة الثانية.
لا تتعلق المسألة فقط بالتنافس الأميركي - الروسي. على أوروبا أن تحاول العثور لنفسها على موقع في العالم الذي تتوالى إشارات تشكله. لم يعد الصعود الآسيوي مجرد تكهنات صحافية. إنه حقيقة ملموسة. تعيش بكين اليوم في ظل أقوى زعامة تعرفها منذ عهد ماوتسي تونغ. سيد الاقتصاد الثاني في العالم يريد لبلاده ما هو أكثر من طريق الحرير. وفي الانشغال بالصعود الصيني، يجب ألا يغيب عن البال ما حققته الهند من تقدم تكنولوجي يؤهلها لأن تكون لاعباً كبيراً في المرحلة المقبلة إلى جانب أميركا والصين وأوروبا.

أكثر من أي وقت مضى، يبدو العالم في مهب المفاجآت. وصول ترمب إلى البيت الأبيض ليس حدثاً بسيطاً. أسلوبه في إدارة أميركا وشؤون العالم جديد وغريب ويصعب تجاهله كما يصعب اللحاق به. وحين تتغير أميركا يتغير العالم أيضاً. روسيا بوتين ليست خصماً سهلاً هي الأخرى. يتلاعب القيصر بالأوراق ويحرك بيادقه ثم يطالب العالم بالإقرار له بمكاسبه. وفي هذا الوقت بدت أوروبا حائرة. توحي أحياناً كأن البيت الأوروبي شيد على عجل، وتجاهل أن دوله تتقدم بسرعات مختلفة يصعب أحياناً التوفيق بينها. ليس بسيطاً أيضاً أن يختار البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي ثم يكتشفون في اليوم التالي أن دعاة الخروج لا يملكون خطة مقنعة لمواجهة أعباء الطلاق. يرتكب الرأي العام أحياناً مغامرات مكلفة تحت وطأة الأصوات الشعبوية والتذمر من الضرائب، وتراجع الثقة بالطبقة السياسية ودفق الأخبار والأوهام عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

كان ماكرون يحلم بأن يؤهل فرنسا لدور أكبر في أوروبا. وهو يعرف أن الأدوار في العالم الحالي تحتاج إلى اقتصاد عصري متحرر من أثقال الأفكار القديمة والتقديمات التي تمنع الاقتصاد من النمو والتقدم والمنافسة. يعرف أن على الفرنسيين تجرع أدوية مرة إذا أرادوا اقتصاداً قادراً على التكيف المتواصل واجتذاب الاستثمارات. من هنا شرع في إجراء بعض الإصلاحات. لكن سرعان ما التصقت بالرئيس الشاب صفة «رئيس الأغنياء». أخذوا عليه تركيز القرار في الإليزيه وعدم إعطاء المساحة الكافية للمؤسسات وللجهد الضروري لإقناع المواطن العادي. اتسعت الهوة بين الرئيس والشارع وانهالت الحملات والاتهامات.
للفرنسيين في النزول إلى الشارع تاريخ حافل. لم يكن الرئيس الحالي قد ولد بعد حين تدفقوا في شوارع باريس في مايو (أيار) 1968. يومها كان الإليزيه في عهدة رجل اسمه شارل ديغول. كانت صلاحياته واسعة وكانت هالته أكبر من صلاحياته. غرقت فرنسا في الفوضى والحيرة وبدا أن الذين اقتلعوا أرصفة الشوارع اقتلعوا أيضاً أعمدة النظام. اختار ديغول يومها عدم الاستسلام وراهن على خوف الفرنسيين من المصير المجهول الذي يحوم في الأفق. حل الجمعية الوطنية وذهب إلى انتخابات عامة عاد منها منتصراً. لكنه بعد عام واحد تذرع بنتائج مخيبة في استفتاء حول اللامركزية وتنحى. كأنه يئس من قدرته على إقناع الفرنسيين الذين يسخرون من الرئيس العادي ويكرهون الرئيس صاحب الهالة.
كان ماكرون يحلم بالدور الأوروبي الكبير حين أطلت السترات الصفراء في الشوارع. وكالعادة اختلط غضب أصحاب المطالب بممارسات أصحاب السوابق. الناقمون على الحكومة وضرائبها ونهجها. والناقمون على المشروع الأوروبي نفسه وتعليمات بروكسل. المتشددون من اليمين والمتطرفون من اليسار. إنها فرنسا الحائرة بين الدور ومستلزماته والإنقاذ وأثمانه. دولة حائرة في قارة قلقة يحلم مهاجرون كثيرون بإلقاء أنفسهم في عواصمها.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فرنسا حائرة في أوروبا مريضة فرنسا حائرة في أوروبا مريضة



GMT 11:27 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

انتقد ترمب ثم سر على خطاه!

GMT 11:22 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

نظام كورونا العالمي الجديد

GMT 11:20 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

وداعاً محمود رضا طاقة البهجة الراقصة

GMT 11:19 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

يريد أن يكون متواضعاً

GMT 11:17 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

٣ ملامح فى ليبيا!
اليمن اليوم-
اليمن اليوم-

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 10:32 2021 الإثنين ,19 تموز / يوليو

ظروف معقدة يستقبل بها اليمنيين عيد الأضحى

GMT 13:24 2021 الإثنين ,28 حزيران / يونيو

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة وجذابة في إيطاليا

GMT 17:17 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 06:28 2024 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

الشيخة حسينة رئيسة وزراء بنغلاديش تفوز بولاية رابعة

GMT 05:53 2024 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

اتجاهات موضة الديكور في غرف الطعام هذا العام

GMT 16:21 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 15:27 2021 الثلاثاء ,20 تموز / يوليو

وصول الفنان عمار العزكي إلى تعز

GMT 15:28 2016 الأربعاء ,30 آذار/ مارس

رئيس ميانمار الجديد يؤدي اليمين الدستورية

GMT 13:58 2017 الخميس ,22 حزيران / يونيو

دراسة تكشف غياب المرأة عن وسائل الإعلام اليمنية

GMT 06:04 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

خواتم من الأحجار الكريمة لأناقتك في "ليلة الكريسماس"

GMT 06:07 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تسريبات جديدة عن هاتف سامسونغ الذكي "غالاكسي S10"

GMT 23:23 2016 الجمعة ,22 إبريل / نيسان

نصائح لاحتراف وضع طلاء الأظافر

GMT 03:02 2016 الأربعاء ,30 آذار/ مارس

ما هو الدليل السريع والبسيط لفهم طفلكِ؟

GMT 22:50 2017 السبت ,14 كانون الثاني / يناير

مطار هيثرو البريطانى يلغى 80 رحلة ترقبًا لتساقط الثلوج

GMT 11:55 2016 الإثنين ,18 إبريل / نيسان

كارتر في بغداد لتعزيز جهود محاربة تنظيم "داعش"

GMT 14:45 2017 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

"يونيسيف" يعلن 18 طفلًا أصيبوا بفيروس"الإيدز" كل ساعة

GMT 14:57 2017 الأحد ,03 كانون الأول / ديسمبر

جاتوزو ينوي تغيير طريقة لعب ميلان والتحول لـ3-4-3

GMT 00:54 2016 الجمعة ,30 أيلول / سبتمبر

سجاد الحائط يعود إلى ديكور المنزل الداخلي
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
alyemen, Alyemen, Alyemen