آخر تحديث GMT 07:01:18
اليمن اليوم-

آخر حبّات العنقود وأوّلها

اليمن اليوم-

آخر حبّات العنقود وأوّلها

بقلم/حسن البطل

لمّا جاء باص الطناطرة، مدربكين مضجين هازجين، إلى أول زاروب بيت مصباح  ومريم وأولادهم، اختبأت وفيقة هلعة خلف باب المطبخ، ليس مثل ما كانت في صغرها تختبئ مني ومن أخي الصغير سعيد في لعبة "الغمّيضة".

جاء الطناطرة (الطنطورة جارة طيرة حيفا إلى شمالها) ليطلبوا يد أصغر شقيقاتي الإناث، وأجملهن إلى قريبنا أسعد عباس.

كانت ستي البطل، عميدة سن آل البطل، تضاهي حفيدتها وفيقة في حُسن جمالها، تأتي من الشام إلى دوما، محنية الظهر، متوكئة على عصاتها، لتزور ابنتها، أمي مريم عباس.

لعشرات من السنين، في الطيرة وسورية، كانت المصاهرة هكذا: أم ستي البطل تزوجت رجلاً من بيت عباس، وأبي مصباح تزوج أمي مريم من بيت عباس، وأخي الأكبر حسين البطل تزوج عائشة من بيت عباس.

هكذا، كانت ذراري هذه الزيجات تأتي خليطاً من زرقة عيون، وشقرة شعر، وبياض سحنة آل البطل أو سود عيون وشعر وسمارة داكنة لسحنة آل عباس، حسب قوانين مندل الوراثية.

كانت شقيقة وفيقة الأكبر، آمنة، تشبهني في انتمائها إلى الفرع العباسي. السيد أسعد يريد يد الشقيقة الأصغر ذات العيون الزرق والشعر الذهبي، التي اختبأت مذعورة خلف الباب، فقد كانت في ربيعها الرابع عشر.

كانت زيجة وفيقة وعباس الأطول عمراً بين زيجات شقيقاتي وأشقائي، ثم كان رحيلها في السعودية، آخر عقدها السابع، قد تركني آخر العنقود من أشقائي وشقيقاتي، وأما الحبة الأصغر في العنقود، أخي سعيد (أبو مشهور) الفدائي، فقد كان أول من غاب.

كان اسعد وشقيقاه سعيد و"أبو ماجد" يعملون في السعودية، أول سنوات اللجوء، كما عمل أخي عبد الرحمن هناك، فترة وجيزة في الخدمات الصحية لشركة "ارامكو" النفطية، وطرد لانتمائه للحزب السوري القومي.

عاد زوج وفيقة مع زوجته، منذ خمس سنوات، بعد تقاعده، ليكون وزوجته قرب أكبر أولاده، الذي يعمل طبيباً في السعودية. لماذا؟ لأن أسعد هرم، ولأن دوما صارت أرض حرب، أتت بالخراب على بيته في دوما.

أبي خلّف أربعة ذكور وأربع إناث، طواهم الموت الذي طواه وأمي، وبعد وفاة أخوي في أول عقدهما الثامن، صاروا في الشام ينادونني: عمي وخالي.. ثم "عميد آل البطل".

الآن، بقيت آخر العنقود، ولعل قلمي "الموعمد" أكثر من اربعين عاماً، جعل بعض الزملاء يدعونني "عميد الصحافة" الفلسطينية، بينها نصف قرن من رفقة السيكارة، إدمان بلا شراهة، لرفقة القلم والسيكارة.

بعد صورة عادية للصدر، طلبوا صورة طبقية: عضلة القلب قوية، شرايين القلب سليمة، لكن إذا لم أطلق السيكارة والقلم، فقد أصاب بانسداد رئوي بعد عشرين عاماً. قلت للطبيب: تكفيني عشر سنوات أخرى، وسنة أخرى من رفقة القرطاس والقلم.

أسعد غادر الدنيا، هرماً، قبل عام من مغادرة زوجته لها. عندما تقدم سوري ـ علوي ـ شيعي لطلب يد ابنته نبيلة، احتج و"زعبر" ثم رضخ، وكانت زيجة الابنة سعيدة وطويلة، كما كانت زيجته هو سعيدة وطويلة.
شقيقاتي الثلاث: زينب، التي رحلت قبل عام، وآمنة التي رحلت قبلها بسنوات بالسرطان، ووفيقة كنّ "ستات بيوت" يعددن أشهى الأطباق الفلسطينية والشامية، وأولادهن شبوا مهندسين وأطباء ناجحين، وتبعثروا في اركان محيط طوق من 360 درجة من محيط الكرة الأرضية؛ توزعتهم المنافي "أيدي سبأ".

الآن، آخر حبات عنقود مصباح ومريم، أو عميد السن لآل البطل، أو عميد أعمدة الصحافة الفلسطينية سيكتب بعد رحيل وفيقة، ربما آخر المراثي، فقد كتب قلمه عشرات منها في فلاش، وأخرى في السيرة، والمكان الفلسطيني، ومجريات الانتفاضة الثانية. تعبت، أو "تعب الرثاء من الرثاء" يقولون عن ذكر مات دون "خلفة": انقطع حرثه ونسله، لكن حرث ونسل أبي وأمي لم ينقطع، منذ صرت، كما صارت شقيقاتي وأشقائي الراحلون قبلي جدوداً مثلي.

لا أعرف كم اسماً ونعتاً لجذر كلمة "الموت" لكن في شبكة "الكلمات المتقاطعة" التي أُدمن على حلها، هناك حرفان "حق". "إنك ميت وإنهم ميتون". "إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
جميع أولاد وأحفاد وأحفاد الأحفاد، من ذراري مصباح ومريم أصدقاء على الشبكة العنكبوتية، وعليها تأتي الأخبار السارة والحزينة في "الوقت الافتراضي".

طيرة ـ حيفا تخلو من آل البطل، والبلدة التي كانت تخلو من غير العرب، صار فيها عائلة طيراوية واحدة، من آل الأبطح، الذين شُرِّدوا في بلاد الشام والعراق، ثم شُرِّدوا في أصقاع الأرض. وحدي مع ابن عمي محمد غير اللزم في غزة عدت إلى أرض البلاد، وحظينا بزيارة مسقط رأس آل البطل.

وداعاً للحبة قبل الأخيرة من عنقود مريم ومصباح. شقيقتي وفيقة التي اختبأت خلف باب المطبخ لما جاؤوا يطلبون يدها من أبي، فقد ربّت أولادها وحملت أحفادها، وأحسنت إعدادهم لحياة مستمرة، بعناقيد أخرى لآل البطل وكروم عنب للشعب الفلسطيني.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

آخر حبّات العنقود وأوّلها آخر حبّات العنقود وأوّلها



GMT 20:25 2021 الخميس ,01 تموز / يوليو

مرافَعةُ البطاركة أمام البابا

GMT 11:21 2021 الثلاثاء ,29 حزيران / يونيو

هل يبدأتصويب بوصلة المسيحيين في لقاء الفاتيكان؟

GMT 13:21 2021 السبت ,26 حزيران / يونيو

لبنان والمساعدات الاميركية للجيش

GMT 14:31 2021 الإثنين ,21 حزيران / يونيو

الحِيادُ هذا اللَقاحُ العجائبيُّ

GMT 23:33 2021 الخميس ,17 حزيران / يونيو

أخبار من اسرائيل - ١

GMT 16:22 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

أخبار عن بايدن وحلف الناتو والصين

GMT 17:50 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

المساعدات الخارجية البريطانية

GMT 07:38 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

أعداء المسلمين
اليمن اليوم-
اليمن اليوم-

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 21:46 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

تزداد الحظوظ لذلك توقّع بعض الأرباح المالية

GMT 05:37 2024 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

نيوزيلندا وجهة سياحية مميزة تتمتع بمناظر طبيعية خلابة

GMT 22:40 2021 السبت ,17 تموز / يوليو

كيف يتعامل كل برج من الأبراج مع الطلاق

GMT 06:51 2024 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

نجمات أبهرن الجمهور رغم تجاوزهن الخمسين

GMT 19:04 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

محمود السرنجاوي يؤكد حاجة "الزهور" لعموميته وأعضاءه حاليًا

GMT 15:02 2021 الثلاثاء ,20 تموز / يوليو

الجيش يسقط طائرة حوثية مسيرة في محافظة حجة

GMT 05:44 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

النجمة سيرين عبد النور تتحدث عن جنس مولودها الذي تنتظره

GMT 12:55 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أنطوان غريزمان يؤكد شغفه في متابعة كرة السلة الأميركية

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,28 شباط / فبراير

ورشة عمل حول تطوير التعليم العالى في جامعة الفيوم

GMT 16:43 2017 الإثنين ,03 إبريل / نيسان

إصلاحات جديدة في الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم

GMT 22:06 2018 الإثنين ,23 تموز / يوليو

الإعلان عن منح دراسية في الجامعات العراقية

GMT 10:24 2016 الأربعاء ,07 كانون الأول / ديسمبر

بروسيا دورتموند يفتقد غوتزه أمام ريال مدريد

GMT 16:56 2017 الجمعة ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

البرتغالي مورينيو يحضّر النجم بول بوغبا لمفاجأة تشيلسي

GMT 05:34 2017 الأربعاء ,22 شباط / فبراير

العلماء يجدون 7 أنواع جديدة من الضفادع الليلية
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
alyemen, Alyemen, Alyemen